صراع البقاء بين اليمن وعلي عبد الله صالح
محمد المختار الشنقيطي
يعاني اليمن اليوم من مشكلات سياسية واقتصادية عديدة، تظللها معضلة بنيوية أكبر. ومن هذه المشكلات صراع الحكومة اليمنية مع الحركة الحوثية، وصراع أبناء الجنوب مع الحكومة المركزية في الشمال، واتخاذ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" من اليمن قاعدة إمداد واستعداد. وقد انضاف إلى ذلك النضوبُ المتوقع للنفط اليمني الذي لم يعد يتجاوز الآن حدود الاستهلاك المحلي إلا بقليل، وشح المياه المزمن الذي سيجعل من صنعاء أول عاصمة عربية يهدد العطش وجودها.
فإذا وضعنا هذه الأزمات الداخلية في إطار أرحب، فسنجد أن اليمن يقع في القلب من مجال جغرافي ملتهب يمتد من الصومال إلى أفغانستان، ومن السهل أن تسريَ عدوى الفوضى العسكرية السائدة في هذين البلدين إلى اليمن. لكنَّ ما يجعل هذه الأزمات مركبةَ وعسيرة الحل هو المعضلة البنيوية العميقة المتمثلة في حكم عسكري شائخ وقصير النظر، لا تزيده الأيام إلا جدْبا وانسدادا.
ولا تتوقف ظلال الأزمة اليمنية عند حدود اليمن، بل هي تمتد داخل الخاصرة السعودية وفي أحشاء القرن الأفريقي. فالحدود الطويلة مع السعودية تجعل الانسكاب شمالا أمرا واردا، كما يمكن الانصهار مع الصومال الملتهب جراء الجوار الجغرافي والوجود الكثيف للاجئين الصوماليين في اليمن. ثم إن اليمن يتحكم في مضيق باب المندب –أحد أهم الممرات المائية التجارية في العالم- وفي الشق الشمالي الغربي من بحر العرب، وهذا ما يجعل وضع اليمن مؤثرا تأثيرا بالغا على الاقتصاد العالمي.
فلننظر الآن في الأزمات الثلاث التي تتنازع اليمن، مع ربطها بالإشكال البنيوي الأكبر.
أما الأزمة مع الحوثيين، فهي –حتى الآن- أقل أزمات اليمن عمقا، وأسهلها حلا، رغم كل التهويلات الطائفية حولها. وهي مثال على فشل الدول العربية المعاصرة في إدارة تراكم الهوية وتزاحمها داخل مجتمعاتها. فالحركة الحوثية في جوهرها ردة فعل ثقافية واجتماعية، سببها الخوف على الهوية الزيدية من الاندثار، وهي هوية طبعت اليمن أكثر من ألف عام.
فقد تراجعت الهوية الزيدية –بحكم تلبُّس الحكم الإمامي البائد بها- أمام الخطاب القومي الثوري الآتي من مصر في الستينيات، ثم بدأت تختنق أمام الثقافة السلفية القادمة من السعودية منذ الثمانينيات. فليست الحركة الحوثية في صراع سياسي مع النظام الحاكم في اليمن، ولا الزيدية في صراع اعتقادي مع السنة، بل إن الزيدية بمنهجها التوفيقي بين التسنن والتشيع قد تعين اليوم على التخفيف من غلواء الانشطار العميق بين السنة السلفية والشيعة الإمامية.
والمتتبع لأدبيات الحوثيين يدرك أن مطالبهم لم تحمل في البدء نبرة سياسية واضحة، بل كانت سعيا من قوة دينية واجتماعية تقليدية للحفاظ على مواريث بدأت تجرفها قوة التاريخ، وكان من الممكن بشيء من الحكمة السياسية أن تحتوي القيادة اليمنية هذه المطالب، فتحافظ للقوى الزيدية التقليدية على أوقافها ومدارسها، وتعترف بالمذهب الزيدي إلى جانب المذهب الشافعي. لكنها اختارت المتاجرة بخوف السعودية المتوارث من الشيعة، وخوف أميركا من إيران، فألهبت المعركة استمطارا للمال السعودي والدعم الأميركي.
وربما كان صحيحا ما لاحظه أحد الباحثين في "لجنة الأزمات الدولية" من أن الدعم السعودي لعلي عبد الله صالح ضد الحوثيين قد يحيل الدعم الإيراني لهم حقيقة، بعد أن كان مجرد دعاية سياسية من الحكومة اليمنية وحلفائها، وأن الاستمرار في قمع الهوية الزيدية قد يدفع الخائفين على هذه الهوية -من الحوثيين وغيرهم- إلى تناسي خلافهم مع الشيعة الإمامية، والبدء في الانضمام لحركة الصحوة الشيعية العابرة للأوطان.
ورغم أن أحاديث القيادة اليمنية عن العلاقات بين الحوثيين وإيران لا مصداقية لها، فإن تلاقي المصالح –على اختلاف العقائد الزيدية والإمامية- أمر وارد في المستقبل، إذا لم تجد الأزمة حلا يمنيا أو عربيا.
فهنالك ظاهرة جديرة بالتأمل في الثقافة الإسلامية المعاصرة، وهي ميل المدارس الاعتقادية والفقهية الشيعية إلى التقارب والالتئام، وميل المدارس الاعتقادية والفقهية السنية إلى التفكك والتضارب. فبينما تعاني التجمعات السنية من الانشطار والتصدع الدائب بفعل الفكر السلفي المولع بالتصنيف والتشطير، يميل الشيعة في العصر الحديث إلى التقارب والتلاقي على أرضية فكرية وسياسية مشتركة، ومن أمثلة ذلك:
* التقارب الفقهي والسياسي بين الإمامية الإيرانية والعلوية السورية، رغم الحساسية العرقية والثقافية المفرطة بين العرب والفرس.
* تلاقي شيعة العراق بإسلامييهم وعلمانييهم على تحقيق هدفهم الإستراتيجي في حكم العراق، بغض النظر عن الاختلاف في التفاصيل والتكتيكات.
* الحلف الوجودي بين إيران وشيعة لبنان، الذي كسب منه شيعة لبنان تحرير بلدهم وتدعيم موقعهم السياسي الداخلي، وكسبت منه إيران مكانة ونفوذا خارجيا.
أما التوتر مع أبناء جنوب اليمن الذين رأوا إخلاف وعود الوحدة، بما تضمنته من حرية وعدالة اجتماعية، فهو دليل آخر على قصر النظر المسيطر على ذهن القيادة السياسية اليمنية، وعمق الاستبداد والفساد في قمتها.
فقد أصبح أبناء جنوب اليمن اليوم يحسون بالغبن، ويرون الاستئثار بالسلطة والثروة على حسابهم، رغم أن حقول النفط تقع في المحافظات الجنوبية. بل رأى أبناء الجنوب أراضيهم يتقاسمها أباطرة الحكم من أقارب الرئيس ومقربيه، ورأوا أبناءهم العسكريين يُسرَّحون من الجيش بالآلاف، بسبب الهوس الأمني عند الرئيس علي عبد الله ومحيطه الأسري المسيطر.
ورغم أن المناكفة للسلطة في صنعاء قد ولَّدت أصواتا انفصالية في جنوب اليمن، فلا يبدو أن أغلب أبناء الجنوب قد فقدوا الثقة في الدولة اليمنية الواحدة، وإنما فقدوا الثقة في نظام الرئيس علي عبد الله صالح، وما اتسم به من فساد وانفراد بالقرار في تعاطيه مع عملية التحول من التجزئة إلى الوحدة، وهي عملية تحتاج إلى سعة نفس، وسياسة اكتساب واستيعاب، وتقريب بين أبناء اليمن الذين فرق بينهم الاستعمار عقودا من الزمن.
ولا يزال من الممكن تدارك الأمر وإنقاذ الوحدة، لكن بشرط الاعتراف بمظالم الماضي، وإصلاح الحاضر. فقد وُلدت حركة الاحتجاج الجنوبي مطالَبةً بمطالب بسيطة ذات صبغة اجتماعية، وكان هدفها الأصلي إعادة الاعتبار للعسكريين الجنوبيين، وزيادة المخصصات المالية للمُسرَّحين منهم من الجيش، وتوفير بعض الوظائف لأبناء الجنوب العاطلين. بيد أن الرئيس علي عبد الله رد بالقمع والقوة، فأرسل مدرعاته لتسحق أولى مظاهرات هؤلاء. فأحال بذلك ما كان مطالب اجتماعية مقبولة إلى توجهات سياسية انفصالية.
وأما انبعاث تنظيم القاعدة في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، فهو أكثر هذه القضايا تعقيدا، وأخطرها أثرا على المدى البعيد، لأنها مرتبطة بالمظالم والتطفيف الأميركي في التعامل مع المسلمين، وهي قضية أكبر من اليمن أو أي دولة أخرى.. وتشير أدبيات القاعدة إلى أن ما تحتاجه للازدهار والتمكن هو شروط ثلاثة: المال والرجال والجبال.
ومن الواضح وجود الرجال والجبال بوفرة يُحسد عليها اليمن. أما الشرط الثالث، وهو المال فلا تحتاج عمليات القاعدة إلى الكثير منه أصلا، ثم إن أمره يهون، بعد اندماج تنظيم القاعدة في كل من اليمن والسعودية مطلع عام 2009 تحت مظلة واحدة هي "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب". وقد دشن التنظيم هذا الاندماج بمحاولة اغتيال نائب وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف في أغسطس/آب 2009، وبمحاولة إسقاط طائرة ركاب على مدينة ديترويت الأميركية في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته.
لكنَّ القاعدة لم تكن لتتمكن في اليمن هذا التمكن لولا أن اليمن يعيش معضلات بنيوية عميقة. ذلك أن القاعدة إنما تجد لها موطئ قدم راسخ حينما تدمج نفسها في الصراعات المحلية داخل دول هشة ذات بنية اجتماعية قبلية. وهي في اليمن تجد –إلى كل ذلك- شعبا أبيًّا مقاتلا مليء الأيدي بالسلاح، وموطنا يقع على مصبَّيْ بحرين وملتقى قارتين. ثم إن اليمن قريب جغرافياً من أفغانستان، الموئل الأصلي لتنظيم القاعدة، ومن باكستان، الملجأ الذي يختبئ فيه قادة القاعدة الآن، على ما يعتقد كثيرون.
ويبدو أن المسارات المستقبلية المتصورة في اليمن على المدى القريب تنحصر في ثلاثة:
أولها: أن ينقلب على الرئيس صالح بعض القادة العسكريين المدركين لإفلاس حكمه وخطر استمراره على اليمن، أو بعض أقاربه ومقربيه الخائفين من دفع ثمن سياساته. فلا أحد يضحي من أجل دكتاتور مدحور بعد أن يفقد أمل البقاء، وتتراكم في وجهه التحديات، وترميه الخطوب بسهامها من كل جانب. ورغم إمساك الرئيس صالح وذويه بالمقاليد العسكرية والأمنية في البلاد، فإن مسار الانقلاب العسكري هذا يظل واردا، بل يظل أكثر المسارات ورودا من الناحية العملية.
وثاني المسارات أن تضغط الدول الغربية الحريصة على نظام الرئيس علي عبد الله صالح في سبيل شيء من الانفتاح السياسي يطيل عمر النظام الشائخ في اليمن، وينفس بعض الانسداد السائد ولو لحين. وقد يأخذ هذا الانفتاح شكل تنازلات للحراك الجنوبي وللحوثيين، وانتخابات برلمانية ومحلية نزيهة نسبيا، وإشراك للمعارضة في الحكومة، وربما تقليص لصلاحيات الرئيس، لصالح رئيس وزراء يملك مصداقية أكبر وقاعدة شعبية أعرض.
وثالث المسارات أن يقود الانسداد والفساد في صنعاء إلى صراع عسكري على السلطة على شاكلة الصراع الدموي بين الرفاق الاشتراكيين الذي أحال مدينة عدن أطلالا في الثمانينيات. ثم يتحول هذا الصراع على السلطة إلى حرب أهلية مدمرة، تتفرع إلى حروب داخلية صغيرة، قبَلية ومناطقية ومذهبية. فإن نشب هذا الصراع المتشعب –لا قدر الله- فسيكون خرابا لليمن، وحريقا يتعدى حدوده إلى السعودية ودول الخليج. لكنه مسار لا يمكن استبعاده في الظروف المتفجرة الحالية، ففي اليمن من العُقَد السياسية والاجتماعية المتراكمة ما يجعل بقاء الأمور على ما هي عليه الآن أمرا مستحيلا، ويبقى الأمل في أن تفلح الحكمة اليمانية في تفادي هذا المسار المعتم.
وتستطيع دول الخليج الإسهام الإيجابي في خروج اليمن من مأزقه، من خلال المدد الاقتصادي ذي البعد الاجتماعي، وتشجيع المصالحة الوطنية والإصلاح الداخلي على المدى القريب، ثم التخطيط لدمج اليمن في مجلس التعاون الخليجي على المدى البعيد، ابتداء من رفع التأشيرات عن مواطني اليمن للعمل والإقامة في دول الخليج.
فاليمن امتداد جغرافي وبشري لدول الخليج، وهو أهم عمق إستراتيجي لهذه الدول. وليس من المناسب بأي منطق إنساني أو إستراتيجي أن يكون 46% من أطفال اليمن –حسب تقديرات البنك الدولي- يعانون من سوء التغذية، وهم يجاورون دولا شقيقة من أغنى بلدان العالم، أو أن تكون الدولة اليمنية على حافة التفكك ثم لا يبادر الأشقاء في الخليج إلى تدارك الوضع، وهو وضع ستكون له آثار عميقة على بلدانهم.
وما من ريب في أن دمج اليمن في المنظومة الخليجية سيحقق ازدهارا واستقرارا في اليمن، لكنه سيفيد دول الخليج أكثر، لأنه الحل الوحيد البعيد المدى للأزمة الديموغرافية في بعض البلدان الخليجية التي تكاد تفقد هويتها العربية بسبب فائض الهجرة الآسيوية، بل تكاد تفقد وجودها في حالة نشوب أزمة دولية حادة تكون فيها أميركا والهند في صف واحد ضد دول الخليج.
حينما كنت أعيش في اليمن نهاية التسعينيات كانت روح الأمل سائدة، رغم شظف العيش الذي تعاني منه قطاعات اجتماعية عريضة. ففرحة الوحدة كانت يومذاك متأججة، والانفتاح السياسي مقبول بمقاييس الأحكام العسكرية في الدول العربية. وكانت القيادة اليمنية تملك حينها قاعدة اجتماعية عريضة، تضفي عليها شيئا من الشرعية السياسية. لكن مصادر التفاؤل هذه قد نضبت اليوم، فوعود الوحدة أصبحت وعودا خالفة لدى العديد من أبناء جنوب اليمن، والانفتاح السياسي منتكس، والقاعدة الاجتماعية التي كانت تستند إليها القيادة اليمنية قد تآكلت تماما، باستثناء من تربطهم المطامع والمطامح مع كل من يحكم، من غير رضاً قلبي أو اقتناع عقلي.
وخلاصة الأمر أن اليمن تسوسه اليوم قيادة فاشلة، وهي تسير به حثيثا إلى وضع الدولة الفاشلة. وسيكون خسارة ومأساة كبرى أن ينشطر هذا البلد الطيب العريق من جديد إلى دولتين متنافستين، أو ينفجر شظايا متناحرة، بسبب دكتاتورية عسكرية متصلبة، ونزعات قبلية وإقليمية ومذهبية ضيقة الأفق. لكن يبدو أن التحول السياسي الجذري هو وحده الذي سيحفظ لليمن وحدته.
كما يعاني اليمن من إهمال الجوار الخليجي وغفلته. وباستثناء الوساطة القطَرية لحل الصراع مع الحوثيين –وقد لاقت تلك الوساطة صدودا ظاهرا من القيادة اليمنية، واعتراضا خافتا من القيادة السعودية- فإن الجوار الخليجي قد ترك الأمور تسير على أعنَّتها في اليمن، رغم المخاطر المفجعة المترتبة على ذلك.
وبينما يتربع اليمن على فوهة بركان، فإن الهمَّ الأهم عند الرئيس علي عبد الله صالح هو التمهيد لتوريث السلطة لابنه، والاحتفاظ بالبلاد ضيعة خاصة له ولأسرته وقبيلته. ويبدو أن الرئيس صالح يعيش في عزلة عن نبض شعبه، محاطا بالأقارب الممسكين بمقاليد الأمور الأمنية والعسكرية: فنجله المتحفز لخلافته يقود الحرس الرئاسي، وأخوه الشقيق يقود سلاح الطيران، وأخوه غير الشقيق يقود القوات المدرعة، وابنا أخيه يقودان قوات الأمن الرئاسي والأمن المركزي.
ولعل الأزمات اليمنية المركبة يصدق عليها اليوم ما قاله الشاعر اليمني الضرير عبد الله البردوني:
يمانيون في المنفى *** ومَنفيُّون في اليمنِ
جنوبيون في صنْعا *** شماليون في عدَنِ
ومن مستعمـر غازٍ *** إلى مستعمر وطني
كما يبدو أن البداية الصحيحة للحل هي التحرر من هذا "المستعمر الوطني"، وهو الحكم العسكري المتصلب الضارب بأطنابه على اليمن منذ ثلاثة عقود. فالصراع الأكبر في اليمن اليوم ليس صراع التجزئة بين شمال وجنوب، أو صراع الطائفية بين سنة وزيدية، أو صراع القوة بين القاعدة وأميركا.. وإنما هو صراع البقاء بين اليمن وعلي عبد الله صالح.
الجزيرة نت